سورة الأحزاب - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


قوله: {ياأيها النبي اتق الله} أي دم على ذلك، وازدد منه {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} من أهل مكة، ومن هو على مثل كفرهم {والمنافقين} أي الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر. قال الواحدي: إنه أراد سبحانه بالكافرين أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور السلمي، وذلك أنهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها. قال: والمنافقين عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. وسيأتي آخر البحث بيان سبب نزول الآية {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أي كثير العلم والحكمة بليغهما، قال النحاس: ودلّ بقوله: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} على أنه كان يميل إليهم: يعني: النبي صلى الله عليه وسلم استدعاء لهم إلى الإسلام، والمعنى: أن الله عزّ وجلّ لو علم أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنهم لأنه حكيم، ولا يخفى بعد هذه الدلالة التي زعمها، ولكن هذه الجملة تعليل لجملة الأمر بالتقوى، والنهي عن طاعة الكافرين، والمنافقين، والمعنى: أنه لا يأمرك أو ينهاك إلا بما علم فيه صلاحاً أو فساداً، لكثرة علمه وسعة حكمته.
{واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ} من القرآن، أي اتبع الوحي في كل أمورك، ولا تتبع شيئاً مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين، ولا من الرأي البحت؛ فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك، وجملة: {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تعليل لأمره باتباع ما أوحى إليك، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن كما هو مأمور باتباعه، ولهذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} على قراءة الجمهور بالفوقية للخطاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ أبو عمرو والسلمي وابن أبي إسحاق بالتحتية. {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً} أي اعتمد عليه وفوّض أمورك إليه، وكفى به حافظاً يحفظ من توكل عليه.
ثم ذكر سبحانه مثلاً توطئة وتمهيداً لما يتعقبه من الأحكام القرآنية، التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه فقال: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.
وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية كما سيأتي، وقيل: هي مثل ضربه الله للمظاهر، أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمَّان، وكذلك لا يكون الدعيّ ابناً لرجلين. وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا وقلب بكذا؛ فنزلت الآية لردّ النفاق، وبيان أنه لا يجتمع مع الإسلام كما لا يجتمع قلبان، والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله وجعلها محلاً للعلم.
{وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائي تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم}، وقرأ الكوفيون وابن عامر: {اللائي} بياء ساكنة بعد همزة، وقرأ أبو عمرو والبزي بياء ساكنة بعد ألف محضة. قال أبو عمرو بن العلاء: إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرؤوا بها، وقرأ قنبل وورش بهمزة مكسورة بدون ياء. قرأ عاصم: {تظاهرون} بضم الفوقية وكسر الهاء بعد ألف مضارع ظاهر، وقرأ ابن عامر بفتح الفوقية والهاء وتشديد الظاء مضارع تظاهر، والأصل: تتظاهرون. وقرأ الباقون: {تظهرون} بفتح الفوقية وتشديد الظاء بدون ألف، والأصل تتظهرون. والظهار مشتق من الظهر، وأصله: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، والمعنى: وما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهنّ هذا القول كأمهاتكم في التحريم، ولكنه منكر من القول وزور وكذلك {مَّا جَعَلَ} الأدعياء الذين تدّعون أنّهم {أَبْنَاءكُمْ} أبناء لكم. والأدعياء جمع دعيّ، وهو الذي يدعي ابناً لغير أبيه، وسيأتي الكلام في الظهار في سورة المجادلة. والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ما تقدّم من ذكر الظهار، والادعاء، وهو مبتدأ. وخبره: {قَوْلُكُم بأفواهكم} أي ليس ذلك إلا مجرد قول بالأفواه ولا تأثير له، فلا تصير المرأة به أماً ولا ابن الغير به ابناً، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوّة. وقيل: الإشارة راجعة إلى الادّعاء، أي ادّعاؤكم أن ابناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له، بل هو مجرّد قول بالفم {والله يَقُولُ الحق} الذي يحقّ اتباعه لكونه حقاً في نفسه لا باطلاً، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم {وَهُوَ يَهْدِي السبيل} أي يدلّ على الطريق الموصلة إلى الحق، وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق وترك قول الباطل والزور.
ثم صرّح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء فقال: {ادعوهم لآِبَائِهِمْ} للصلب، وانسبوهم إليهم ولا تدعوهم إلى غيرهم، وجملة: {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} تعليل للأمر بدعاء الأبناء للآباء، والضمير راجع إلى مصدر {ادعوهم}. ومعنى {أقسط}: أعدل، أي أعدل كلّ كلام يتعلق بذلك، فترك الإضافة للعموم كقوله: الله أكبر، وقد يكون المضاف إليه مقدّراً خاصاً، أي أعدل من قولكم هو ابن فلان ولم يكن ابنه لصلبه. ثم تمم سبحانه الإرشاد للعباد فقال: {فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ} أي فهم إخوانكم في الدين وهم مواليكم، فقولوا: أخي ومولاي ولا تقولوا: ابن فلان، حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقة. قال الزجاج ويجوز أن يكون مواليكم أولياءكم في الدين. وقيل: المعنى: فإن كانوا محررين ولم يكونوا أحراراً، فقولوا: موالي فلان {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي لا إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد، {ولكن} الإثم في {مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وهو ما قلتموه على طريقة العمد من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك.
قال قتادة: لو دعوت رجلاً لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} يغفر للمخطئ ويرحمه ويتجاوز عنه، أو غفوراً للذنوب رحيماً بالعباد، ومن جملة من يغفر له ويرحمه من دعا رجلاً لغير أبيه خطأ. أو قبل النهي عن ذلك.
ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة وخصوصية جليلة لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي هو أحقّ بهم في كلّ أمور الدين والدنيا، وأولى بهم من أنفسهم فضلاً عن أن يكون أولى بهم من غيرهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم، وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدّموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم. وبالجملة فإذا دعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدّموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدّموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم. وقيل: المراد ب {أنفسهم} في الآية بعضهم، فيكون المعنى: أن النبيّ أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض. وقيل: هي خاصة بالقضاء، أي هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى به بينهم. وقيل: أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه، والأوّل أولى. {وأزواجه أمهاتهم} أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم، ومنزلات منزلتهنّ في استحقاق التعظيم؛ فلا يحلّ لأحد أن يتزوج بواحدة منهنّ كما لا يحلّ له أن يتزوج بأمه، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهنّ وبالتعظيم لجنابهنّ، وتخصيص المؤمنين يدلّ على أنهنّ لسن أمهات نساء المؤمنين ولا بناتهنّ أخوات المؤمنين، ولا أخوتهنّ أخوال المؤمنين.
وقال القرطبي: الذي يظهر لي أنهنّ أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهنّ على الرجال والنساء كما يدلّ عليه قوله: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة. قال: ثم إن في مصحف أبيّ بن كعب: {وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم}، وقرأ ابن عباس: {أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب وأزواجه أمهاتهم}.
ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} المراد بأولي الأرحام: القرابات، أي هم أحقّ ببعضهم البعض في الميراث، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال، وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة. قال قتادة: لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال: {والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72]، فتوارث المسلمون بالهجرة، ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وكذا قال غيره.
وقيل: إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، و{فِي كتاب الله} يجوز أن يتعلق بأفعل التفضيل في قوله: {أولى بِبَعْضٍ} لأنه يعمل في الظرف، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير، أي كائناً في كتاب الله. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ أو القرآن أو آية المواريث، وقوله: {مِنَ المؤمنين} يجوز أن يكون بياناً ل {أولوا الأرحام}، والمعنى: أن ذوي القرابات من المؤمنين {والمهاجرين} بعضهم أولى ببعض، ويجوز أن يتعلق ب {أولي} أي وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذين هم أجانب. وقيل: إن معنى الآية: وأولوا الأرحام ببعضهم أولى ببعض: إلا ما يجوز لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من كونهم كالأمهات في تحريم النكاح، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى.
{إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} هذا الاستثناء إما متصل من أعمّ العام، والتقدير: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً، من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز. قاله قتادة والحسن وعطاء ومحمد بن الحنفية. قال محمد بن الحنفية: نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. فالكافر وليّ في النسب لا في الدين، فتجوز الوصية له، ويجوز أن يكون منقطعاً، والمعنى: لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به، ومعنى الآية: أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصى لهم.
وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة، والإشارة بقوله: {كَانَ ذَلِكَ} إلى ما تقدّم ذكره، أي كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، وردّه إلى ذوي الأرحام من القرابات {فِي الكتاب مَسْطُورًا} أي في اللوح المحفوظ، أو في القرآن مكتوباً.
وقد أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قام النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم؟ فنزل: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.
وأخرج ابن مردويه عنه من طريق أخرى بلفظ: صلى لله النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة فسها فيها، فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون، فقالوا: إن له قلبين، فنزلت.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضاً قال: كان رجل من قريش يسمى من دهائه ذا القلبين، فأنزل الله هذا في شأنه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر، أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبَائِهِمْ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل».
وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه».
وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه من حديث جابر نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال: غزوت مع عليّ إلى اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت علياً فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير، وقال: «يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» وقد ثبت في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين».
وأخرج ابن سعد وابن المنذر، والبيهقي في سننه عن عائشة؛ أن امرأة قالت لها: يا أمه، فقالت: أنا أمّ رجالكم ولست أمّ نسائكم.
وأخرج ابن سعد عن أم سلمة قالت: أنا أمّ الرجال منكم والنساء.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي في دلائله عن بجالة قال: مرّ عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف: «النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم»، فقال: يا غلام حكها، فقال: هذا مصحف أبيّ، فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق.
وأخرج الفريابي والحاكم وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: «النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم».


قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} العامل في الظرف محذوف، أي واذكر، كأنه قال: يا أيها النبي اتق الله، واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين. قال قتادة: أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصاً أن يصدق بعضهم بعضاً، ويتبع بعضهم بعضاً.
وقال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادة الله، وأن يصدق بعضهم بعضاً، وأن ينصحوا لقومهم. والميثاق هو اليمين، وقيل: هو: الإقرار بالله، والأوّل أولى، وقد سبق تحقيقه. ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم، فقال: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل؛ لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة ومن أولي العزم من الرسل، وتقديم ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى. قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذرّ. ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ فقال: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً} أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا وما أخذه الله عليهم، ويجوز: أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرّتين، فأخذ عليهم في المرّة الأولى مجرّد الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد. ثم أخذه عليهم ثانياً مغلظاً مشدّداً، ومثل هذه الآية قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءَاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].
واللام في قوله: {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} يجوز أن تكون لام كي، أي لكي يسأل الصادقين من النبيين عن صدقهم في تبليغ الرسالة إلى قومهم، وفي هذا وعيد لغيرهم؛ لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم؟ وقيل: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم كما في قوله: {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6] ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي فعل ذلك ليسأل {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً} معطوف على ما دل عليه {لِّيَسْأَلَ الصادقين} إذ التقدير: أثاب الصادقين وأعدّ للكافرين، ويجوز أن يكون معطوفاً على {أخذنا} لأن المعنى: أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين وأعدّ للكافرين. وقيل: إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأوّل، ومن الأوّل ما أثبت مقابله في الثاني، والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم وأعدّ لهم عذاباً أليماً. وقيل: إنه معطوف على المقدّر عاملاً في ليسأل كما ذكرنا، ويجوز أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله: {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} وتكون جملة: {وَأَعَدَّ}، مستأنفة لبيان ما أعدّه للكفا.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} هذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معها خوف من أحد وقوله: {عليكم} متعلق بالنعمة إن كانت مصدراً أو بمحذوف هو حال، أي كائنة عليكم، ومعنى: {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} حين جاءتكم جنود، وهو ظرف للنعمة، أو للمقدّر عاملاً في {عليكم}، أو لمحذوف هو اذكر، والمراد بالجنود: جنود الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزوه إلى المدينة، وهي الغزوة المسماة: غزوة الخندق وهم: أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف، وعيينة بن حصن الفزاري ومن معه من قومه غطفان وبنو قريظة والنضير، فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات، وكانت هذه الغزوة في شوّال سنة خمس من الهجرة، قاله ابن إسحاق.
وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك: كانت في سنة أربع.
وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} معطوف على {جاءتكم}. قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم، ويدلّ على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» والمراد بقوله: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} الملائكة. قال المفسرون: بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه: يا بني فلان هلمّ إليّ، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} قرأ الجمهور: {تعملون} بالفوقية، أي بما تعملون أيها المسلمون من ترتيب الحرب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه، وقرأ أبو عمرو بالتحتية أي بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله، والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة.
{إِذْ جَاؤوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ} {إذ} هذه وما بعدها بدل من {إذ} الأولى، والعامل في هذه هو العامل في تلك. وقيل: منصوبة بمحذوف هو: اذكر، ومعنى {مّن فَوْقِكُمْ}: من أعلى الوادي، وهو من جهة المشرق، والذين جاؤوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد، وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضمّ إليهم عوف بن مالك وبني النضير، ومعنى {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}: من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حييّ بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق، ومعهم عامر بن الطفيل، وجملة: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار} معطوفة على ما قبلها، أي مالت عن كل شيء، فلم تنظر إلا إلى عدوّها مقبلاً من كل جانب.
وقيل: شخصت دهشاً من فرط الهول والحيرة {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم، أي ارتفعت القلوب عن مكانها، ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها، وهو الذي نهايته الحنجرة، لخرجت، كذا قال قتادة. وقيل: هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب، وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها. قال الفراء: والمعنى: أنهم جبنوا وجزع أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتدّ خوفه أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره.
{وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} أي الظنون المختلفة، فبعضهم ظنّ النصر ورجا الظفر، وبعضهم ظنّ خلاف ذلك.
وقال الحسن: ظنّ المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه، وظنّ المؤمنون أنه ينصر. وقيل: الآية خطاب للمنافقين، والأولى ما قاله الحسن. فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الإطلاق أعمّ من أن يكون مؤمناً في الواقع أو منافقاً واختلف القراء في هذه الألف في {الظنونا}: فأثبتها وصلاً ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي، وتمسكوا بخط المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان فإن الألف فيها كلها ثابتة، واختار هذه القراءة أبو عبيد إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهنّ بل يقف عليهنّ، وتمسكوا أيضاً بما في أشعار العرب من مثل هذا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معاً، وقالوا: هي من زيادات الخط، فكتبت كذلك، ولا ينبغي النطق بها. وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره. وقرأ ابن كثير والكسائي وابن محيصن بإثباتها وقفاً، وحذفها وصلاً، وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله: {الرسولا} {والسبيلا} كما سيأتي آخر هذه السورة.
{هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} الظرف منتصب بالفعل الذي بعده. وقيل: ب {تظنون}، واستضعفه ابن عطية، وهو ظرف مكان، يقال: للمكان البعيد هنالك، كما يقال: للمكان القريب: هنا، وللمتوسط هناك.
وقد يكون ظرف زمان، أي: عند ذلك الوقت ابتلي المؤمنون، ومنه قول الشاعر:
وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت *** فهناك يعترفون أين المفزع؟
أي في ذلك الوقت، والمعنى: أن في ذلك المكان، أو الزمان اختبر المؤمنون بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال؛ ليتبيّن المؤمن من المنافق {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} قرأ الجمهور: {زلزلوا} بضم الزاي الأولى وكسر الثانية على ما هو الأصل في المبنيّ للمفعول، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى، وروى الزمخشري عنه أنه قرأ بإشمامها كسراً، وقرأ الجمهور: {زلزالاً} بكسر الزاي الأولى، وقرأ عاصم والجحدري وعيسى بن عمر بفتحها.
قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح. نحو: قلقلته قلقالاً، وزلزلوا زلزالاً، والكسر أجود. قال ابن سلام: معنى {زلزلوا}: حرّكوا بالخوف تحريكاً شديداً.
وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: المعنى: أنهم اضطربوا اضطراباً مختلفاً، فمنهم من اضطرب في نفسه، ومنهم من اضطرب في دينه.
{وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} معطوف على {إذ زاغت الأبصار}، والمرض في القلوب هو: الشك والريبة، والمراد ب {المنافقون}: عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وب {الذين في قلوبهم مرض}: أهل الشك، والاضطراب. {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من النصر والظفر {إِلاَّ غُرُوراً} أي باطلاً من القول، وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلاً من أهل النفاق والشك، وهذا القول المحكي عن هؤلاء هو كالتفسير للظنون المذكورة، أي كان ظنّ هؤلاء هذا الظنّ، كما كان ظنّ المؤمنين النصر وإعلاء كلمة الله.
{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي: من المنافقين. قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين.
وقال السديّ: هم: عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وقيل: هم أوس بن قبطي وأصحابه. والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله: {ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} أي لا موضع إقامة لكم، أو لا إقامة لكم ها هنا في العسكر. قال أبو عبيد: يثرب اسم الأرض، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية منها قال السهيلي: وسميت يثرب، لأن الذي نزلها من العمالقة اسمه يثرب بن عبيل، قرأ الجمهور: {لا مقام لكم} بفتح الميم، وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة بضمها، على أنه مصدر من أقام يقيم، وعلى القراءة الأولى هو اسم مكان {فارجعوا} أي إلى منازلكم، أمروهم بالهرب من عسكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء المنافقون: ليس ها هنا موضع إقامة، وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة. {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبي} معطوف على {قالت طائفة منهم} أي يستأذنون في الرجوع إلى منازلهم، وهم: بنو حارثة، وبنو سلمة، وجملة: {يَقُولُونَ} بدل من قوله: {يستأذن} أو حال أو استئناف جواباً لسؤال مقدّر، والقول الذي قالوه هو قولهم: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي ضائعة سائبة ليست بحصينة ولا ممتنعة من العدوّ. قال الزجاج: يقال: عور المكان يعور عوراً وعورة، وبيوت عْورة وعِورة، وهي مصدر.
قال مجاهد ومقاتل والحسن: قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السرّاق.
وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدوّ، ولا نأمن على أهلنا. قال الهروي: كل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة، والعورة في الأصل: الخلل فأطلقت على المختل، والمراد: ذات عورة، وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي: {عورة} بكسر الواو، أي قصيرة الجدران. قال الجوهري: العورة كل حال يتخوّف منه في ثغر أو حرب. قال النحاس: يقال أعور المكان: إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس: إذا تبين منه موضع الخلل، ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} فكذّبهم الله سبحانه فيما ذكروه، والجملة في محل نصب على الحال، ثم بيّن سبب استئذانهم وما يريدونه به، فقال: {إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} أي ما يريدون إلا الهرب من القتال. وقيل: المراد: ما يريدون إلا الفرار من الدين.
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا} يعني بيوتهم أو المدينة، والأقطار: النواحي جمع قطر، وهو الجانب والناحية، والمعنى: لو دخلت عليهم بيوتهم أو المدينة من جوانبها جميعاً لا من بعضها، ونزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم، وهتكت حرمهم، ومنازلهم {ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة} من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم {لآتَوْهَا} أي لجاؤوها أو أعطوها، ومعنى الفتنة هنا: إما القتال في العصبية، كما قال الضحاك، أو الشرك بالله والرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون خلافه، كما قال الحسن. قرأ الجمهور: {لآتوها} بالمدّ، أي لأعطوها من أنفسهم، وقرأ نافع وابن كثير بالقصر، أي لجاؤوها {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً} أي بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة إلا تلبثاً يسيراً حتى يهلكوا، كذا قال الحسن والسديّ والفراء والقتيبي.
وقال أكثر المفسرين: إن المعنى: وما احتسبوا عن فتنة الشرك إلا قليلاً، بل هم مسرعون إليها راغبون فيها، لا يقفون عنها إلاّ مجرّد وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة، كما تعلّلوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة، ولم تكن إذ ذاك عورة.
ثم حكى الله سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل، من المعاهدة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالثبات في الحرب، وعدم الفرار عنه فقال: {وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الآدبار} أي من قبل غزوة الخندق ومن بعد بدر، قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلنّ، وهم: بنو حارثة وبنو سلمة {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً} أي مسؤولاً عنه، ومطلوباً صاحبه بالوفاء به، ومجازي على ترك الوفاء به.
{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل} فإن من حضر أجله مات أو قتل فرّ أو لم يفرّ {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي تمتعاً قليلاً أو زماناً قليلاً بعد فرارهم إلى أن تنقضي آجالهم، وكل ما هو آت فهو قريب قرأ الجمهور: {تمتعون} بالفوقية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه بالتحتية. وفي بعض الروايات {لا تمتعوا} بحذف النون إعمالاً ل {إذن}، وعلى قراءة الجمهور هي ملغاة.
{قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً} أي هلاكاً أو نقصاً في الأموال وجدباً ومرضاً {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} يرحمكم بها من خصب ونصر وعافية {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً} يواليهم، ويدفع عنهم {وَلاَ نَصِيراً} ينصرهم من عذاب الله.
وقد أخرج الطبراني وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني: أن أعرابياً قال: يا رسول الله، أيّ شيء كان أوّل نبوّتك؟ قال: «أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقًا غَلِيظاً}، ودعوة إبراهيم قال: {وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} [البقرة: 29]، وبشرى عيسى ابن مريم» ورأت أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله، متى أخذ ميثاقك؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
وأخرج البزار، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الدلائل عنه قال: قيل: يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها.
وأخرج الحسن بن سفيان وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والديلمي وابن عساكر من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} الآية قال: «كنت أوّل النبيين في الخلق وآخرهم في البعث» فبدأ به قبلهم.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: {ميثاقهم} عهدهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
وأخرج الحاكم وصحّحه، وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر من طرق عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا؛ نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشدّ ظلمة ولا أشدّ ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون ونحن ثلثمائة، أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلا حتى مرّ عليّ وما عليّ جنة من العدوّ ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال: «من هذا؟ فقلت: حذيفة، قال: حذيفة؟، فتقاصرت إلى الأرض، فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، قال: قم فقمت، فقال: إنه كان في القوم خبر، فأتني بخبر القوم، قال: وأنا من أشدّ القوم فزعاً وأشدّهم قرّاً، فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته؛ قال: فوالله ما خلق الله فزعاً ولا قرًّا في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد منه شيئاً؛ فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدثنّ في القوم شيئاً حتى تأتيني»، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل، ثم دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم، ثم خرجت نحو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق، أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارساً معتمين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يترحلون، وأنزل الله: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} قال: كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى، وأبو الشيخ وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما كان ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب، فقالت: انطلقي فانصري الله ورسوله، فقالت الجنوب: إن الحرّة لا تسري بالليل، فغضب الله عليها وجعلها عقيماً، فأرسل عليهم الصبا، فأطفأت نيرانهم وقطعت أطنابهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور»، فذلك قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور».
وأخرج البخاري وغيره عن عائشة في قوله: {إِذْ جَاؤوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ} الآية قالت: كان ذلك يوم الخندق. وفي الباب أحاديث في وصف هذه الغزوة، وما وقع فيها، وقد اشتملت عليها كتب الغزوات والسير.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب، وهي المدينة تنفي البأس كما ينفي الكير خبث الحديد».
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة، هي طابة، هي طابة» ولفظ أحمد: «إنما هي طابة» وإسناده ضعيف.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبي} قال: هم بنو حارثة قالوا: {بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي: مختلة نخشى عليها السرق.
وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا} قال: لأعطوها: يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على المدينة.


قوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} يقال: عاقه واعتاقه وعوّقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده. قال الواحدي: قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم قالوا لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لالتقمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا. وقيل: إن القائل هذه المقالة اليهود قالوا: {لإخوانهم} من المنافقين: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} ومعنى {هلم}: أقبل واحضر، وأهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث، وغيرهم من العرب يقولون: هلم للواحد المذكر، وهلمي للمؤنث، وهلما للاثنين، وهلموا للجماعة، وقد مرّ الكلام على هذا في سورة الأنعام {وَلاَ يَأْتُونَ البأس} أي الحرب {إِلاَّ قَلِيلاً} خوفاً من الموت. وقيل: المعنى: لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير احتساب {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء عليكم لا يعاونوكم بحفر الخندق، ولا بالنفقة في سبيل الله، قاله مجاهد وقتادة. وقيل: أشحة بالقتال معكم. وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم. وقيل: أشحة بالغنائم إذا أصابوها. قاله السديّ. وانتصابه على الحال من فاعل {يأتون}. أو من {المعوقين}.
وقال الفراء: يجوز في نصبه أربعة أوجه: منها النصب على الذم، ومنها بتقدير فعل محذوف، أي يأتونه أشحة. قال النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه للمعوقين ولا القائلين؛ لئلا يفرق بين الصلة والموصول.
{فَإِذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} أي تدور يميناً، وشمالاً وذلك سبيل الجبان إذا شاهد ما يخافه {كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} أي كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه، فيذهل ويذهب عقله، ويشخص بصره فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عيناه، ودارت حماليق عينيه، والكاف نعت مصدر محذوف {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} يقال: سلق فلان فلاناً بلسانه: إذا أغلظ له في القول مجاهراً. قال الفراء: أي: آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة. ويقال: خطيب مسلاق ومصلاق: إذا كان بليغاً، ومنه قول الأعشى:
فيهم المجد والسماحة والنج *** دة فيهم والخاطب السلاق
قال القتيبي: المعنى: آذوكم بالكلام الشديد، والسلق الأذى، ومنه قول الشاعر:
ولقد سلقت هوازنا *** بنو أهل حتى انحنينا
قال قتادة: معنى الآية: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطنا فإنا قد شهدنا معكم. فعند الغنيمة أشحّ قوم وأبسطهم لساناً، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم. قال النحاس: وهذا قول حسن، وانتصاب {أَشِحَّةً عَلَى الخير} على الحالية من فاعل {سلقوكم}، ويجوز أن يكون نصبه على الذمّ.
وقرأ ابن أبي عبلة برفع {أشحة}، والمراد هنا: أنهم أشحة على الغنيمة يشاحون المسلمين عند القسمة، قاله يحيى بن سلام. وقيل: على المال أن ينفقوه في سبيل الله. قاله السديّ. ويمكن أن يقال معناه: أنهم قليلو الخير من غير تقييد بنوع من أنواعه، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصوفين بتلك الصفات {لَمْ يُؤْمِنُواْ} إيماناً خالصاً بل هم منافقون، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أي أبطلها بمعنى أظهر بطلانها لأنها لم تكن لهم أعمال تقتضي الثواب حتى يبطلها الله. قال مقاتل: أبطل جهادهم لأنه لم يكن في إيمان {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} أي وكان ذلك الإحباط لأعمالهم، أو كان نفاقهم على الله هيناً.
{يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب باقون في معسكرهم لم يذهبوا إلى ديارهم، وذلك لما نزل بهم من الفشل والروع {وَإِن يَأْتِ الأحزاب} مرة أخرى بعد هذه المرة {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب} أي يتمنون أنهم في بادية الأعراب لما حلّ بهم من الرهبة، والبادي خلاف الحاضر، يقال: بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ} أي عن أخباركم وما جرى لكم، كل قادم عليهم من جهتكم. أو يسأل بعضهم بعضاً عن الأخبار التي بلغته من أخبار الأحزاب ورسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أنهم يتمنون أنهم بعيد عنكم يسألون عن أخباركم من غير مشاهدة للقتال لفرط جبنهم وضعف نياتهم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لو كانوا معكم في هذه الغزوة مشاهدين للقتال ما قاتلوا معكم إلا قتالاً قليلاً خوفاً من العار وحمية على الديار.
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي قدوة صالحة، يقال: لي في فلاة أسوة، أي لي به، والأسوة من الائتساء، كالقدوة من الاقتداء: اسم يوضع موضع المصدر. قال الجوهري: والأسوة والإسوة بالضم والكسر، والجمع أسى وإسى. قرأ الجمهور {أسوة} بالضم للهمزة، وقرأ عاصم بكسرها، وهما لغتان كما قال الفراء وغيره. وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، وهذه الآية وإن كان سببها خاصاً، فهي عامة في كل شيء، ومثلها: {مَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7]، وقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31]، واللام في {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} متعلق ب {حسنة}، أو بمحذوف هو صفة ل {حسنة}، أي كائنة لمن يرجو الله. وقيل: إن الجملة بدل من الكاف في لكم، وردّه أبو حيان وقال: إنه لا يبدل من ضمير المخاطب بإعادة الجار.
ويجاب عنه بأنه قد أجاز ذلك الكوفيون والأخفش وإن منعه البصريون، والمراد ب {من كان يرجو الله}: المؤمنون؛ فإنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه، ومعنى يرجون الله: يرجون ثوابه أو لقاءه، ومعنى يرجون اليوم الآخر: أنهم يرجون رحمة الله فيه، أو يصدقون بحصوله وأنه كائن لا محالة، وهذه الجملة تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى {وَذَكَرَ الله كَثِيراً} معطوف على {كان}، أي ولمن ذكر الله في جميع أحواله ذكراً كثيراً، وجمع بين الرجاء لله والذكر له، فإن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بيّن سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب، ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر العباب فقال: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} الإشارة بقوله: {هذا} إلى ما رأوه من الجيوش، أو إلى الخطب الذي نزل والبلاء الذي دهم، وهذا القول منهم قالوه استبشاراً بحصول ما وعدهم الله ورسوله من مجيء هذه الجنود، وإنه يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله، و{ما} في: {ما وعدنا الله} هي الموصولة، أو المصدرية، ثم أردفوا ما قالوه بقولهم: {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} أي ظهر صدق خبر الله ورسوله {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً} أي ما زادهم ما رأوه إلا إيماناً بالله وتسليماً لأمره. قال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيماناً وتسليماً. قال عليّ بن سليمان: {رأى} يدل على الرؤية وتأنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى: ما زادهم الرؤية إلا إيماناً للرب وتسليماً للقضاء، ولو قال: ما زادتهم لجاز.
{مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} أي من المؤمنين المخلصين رجال صدقوا أتوا بالصدق، من صدقني إذا قال الصدق، ومحل {ما عاهدوا الله عليه} النصب بنزع الخافض، والمعنى: أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة من الثبات معه، والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده، وخان الله ورسوله وهم المنافقون. وقيل: هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا له ولم يفروا، ووجه إظهار الاسم الشريف، والرسول في قوله: {صَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} بعد قوله: {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر:
أرى الموت لا يسبق الموت شيء ***
وأيضاً لو أضمرهما، لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظ واحد. وقال: صدقا، وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث: «بئس خطيب القوم أنت» لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى. ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله وقسمهم إلى قسمين فقال: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} النحب: ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به، ومنه قول الشاعر:
عشية فرّ الحارثيون بعد ما *** قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر
وقال الآخر:
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا *** عشية بسطام جرين على نحب
أي على أمر عظيم. والنحب يطلق على النذر والقتل والموت. قال ابن قتيبة: قضى نحبه أي قتل وأصل النحب: النذر. كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا، أو يفتح الله لهم فقتلوا، فقيل: فلان قضى نحبه، أي قتل، والنحب أيضاً الحاجة وإدراك الأمنية، يقول قائلهم: مالي عندهم نحب، والنحب: العهد، ومنه قول الشاعر:
لقد نحبت كلب على الناس أنهم *** أحقّ بتاج الماجد المتكرّم
وقال آخر:
قد نحب المجد علينا نحبا ***
ومن ورود النحب في الحاجة وإدراك الأمنية قول الشاعر:
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل ***
ومعنى الآية: أن من المؤمنين رجالاً أدركوا أمنيتهم، وقضوا حاجتهم ووفوا بنذرهم فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم، فإنهم مستمرّون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقتال لعدوّه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل، وإدراك فضل الشهادة، وجملة: {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} معطوفة على صدقوا، أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله ورسوله عليه كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتاً مستمراً، أما الذين قضوا نحبهم فظاهر، وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدّلوا. واللام في قوله: {لّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} يجوز أن يتعلق ب {صدقوا}، أو ب {زادهم}، أو ب {ما بدلوا}، أو بمحذوف، كأنه قيل: وقع جميع ما وقع ليجزي الله الصادقين بصدقهم {وَيُعَذّبَ المنافقين إِن شَاء} بما صدر عنهم من التغيير والتبديل، جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء، وأرادوها بسبب تبديلهم وتغييرهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبها والسعي لتحصيلها، ومفعول {إن شاء}، وجوابها محذوفان، أي إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق ولم يتركوه ويتوبوا عنه {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أي لمن تاب منهم، وأقلع عما كان عليه من النفاق. ثم رجع سبحانه إلى حكاية بقية القصة، وما امتنّ به على رسوله والمؤمنين من النعمة فقال: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ}، وهم الأحزاب، والجملة معطوفة على {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} أو على المقدّر عاملاً في {ليجزي الله الصادقين بصدقهم}، كأنه قيل: وقع ما وقع من الحوادث وردّ الله الذين كفروا، ومحل {بِغَيْظِهِمْ} النصب على الحال، والباء للمصاحبة، أي حال كونهم متلبسين بغيظهم ومصاحبين له، ويجوز أن تكون للسببية، وجملة: {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} في محل نصب على الحال أيضاً من الموصول، أو من الحال الأولى على التعاقب، أو التداخل.
والمعنى: أن الله ردّهم بغيظهم لم يشف صدورهم ولا نالوا خيراً في اعتقادهم، وهو الظفر بالمسلمين، أو لم ينالوا خيراً أيّ خير، بل رجعوا خاسرين لم يربحوا إلا عناء السفر وغرم النفقة {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بما أرسله من الريح والجنود من الملائكة {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} على كل ما يريده إذا قال له: كن، كان، عزيزاً غالباً قاهراً لا يغالبه أحد من خلقه ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: {سَلَقُوكُم} قال: استقبلوكم.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} قال: هيناً.
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر وابن النجار عن عمر في قوله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قال: في جوع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استدلّ بهذه الآية جماعة من الصحابة في مسائل كثيرة اشتملت عليها كتب السنة، وهي خارجة عما نحن بصدده.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} إلى آخر الآية قال: إن الله قال لهم في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء} [البقرة: 214] فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق {قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} فتأوّل المسلمون ذلك، فلم يزدهم {إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً}.
وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر: {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ}.
وأخرج ابن سعد وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي، والبغوي في معجمه، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال: أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد، ليرينّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو وأين؟ قال: واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.
وقد روي عنه نحوه من طريق أخرى عند الترمذي وصححه والنسائي وغيرهما.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ: {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} الآية، ثم قال: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه»، وقد تعقب الحاكم في تصحيحه الذهبي، كما ذكر ذلك السيوطي، ولكنه قد أخرج الحاكم حديثاً آخر وصححه.
وأخرجه أيضاً البيهقي في الدلائل عن أبي ذرّ قال: «لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مرّ على مصعب بن عمير مقتولاً على طريقه، فقرأ: {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} الآية».
وأخرج ابن مردويه من حديث خباب مثله، وهما يشهدان لحديث أبي هريرة.
وأخرج الترمذي وحسنه، وأبو يعلى وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن طلحة: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابيّ جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد فقال: «أين السائل عمن قضى نحبه؟» قال الأعرابي: أنا، قال: «هذا ممن قضى نحبه».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديثه نحوه.
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طلحة ممن قضى نحبه».
وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى وأبو نعيم وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سرّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة».
وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله.
وأخرج ابن منده وابن عساكر من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه.
وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن عليّ، أن هذه الآية نزلت في طلحة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} قال: الموت على ما عاهدوا الله عليه، ومنهم من ينتظر الموت على ذلك.
وأخرج أحمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزونا».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} قال: مات على ما هو عليه من التصديق، والإيمان {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} ذلك {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} لم يغيروا كما غير المنافقون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5